{السَّنة 8 قَبل الهجرة}
ثم كَثر أذَى المُشركين بأصحاب رسول الله؛ يَحبسُونهم، ويُعذبونهم
بالضَرب والجُوع والعَطش؛
فمِنهم مَن يُفتتن عن دِينه مِن شِدَّة البلَاء، ومِنهم مَن يَصبر فيَعصمه الله
منهم؛ وكان مِن المُؤمنين الصابرين بِلال بن رَباح؛ وكان أُميَّةَ بن خَلف
يُخرجه إذا حَمِيَت الظهيرة، فيَطرحه على ظَهره في رَملٍ
شديد الحَرارة، ثمّ يَأمرُ بصَخرةٍ عَظيمة فتُوضَع على صَدره، ويقول له: لا تَزال هَكذا
أو تُفارق دِين مُحمد. فيقول بِلال في غَمرة العَذاب تلك: أَحَدٌ، أَحَدٌ..
إلى أن اشتراه منه أبو بكر الصِّديق وأعتقه.. بل إن أُسَراً
بأكملها كانت تَتَجَرَّع ألوانا مِن المِحَن والشَدائد، مِنهم؛ آل ياسر الذين
أُوذُوا وعُذبوا عَذابا شَديداً حتى
قال لهم رسول الله مُبَشرا: «صَبْراً آل يَاسرٍ فإن مَوْعِدُكُم الجَنَّةُ»[1]. وفِيهم كانت سُمَيَّة بنت خياط أوّل شَهيدة/شَهيد
في الإسلام.. فلمَّا رَأى رسول الله ما يُصيب أصحابه مِن
البَلاء؛ قال لَهم: «لَوْ خَرَجْتُمْ إلى أَرْضِ الحَبَشَةِ[2]
فَإِنَّ بِهَا مَلِكاً لا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ وَهِيَ أرْضُ صِدْقٍ حَتَّى يَجْعَلَ
اللهُ لَكُمْ فَرَجاً مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ»[3]. فخَرَج المُسلمون عِند ذَلك؛ مَخافة الفِتنة وفِراراً إلى الله بِدِينهم،
فكانت أول هِجرة في الإسلام[4].
وبَقِيَ رسول الله بمَكة مُصَمما على الاستمرار
رُغم استنكار قومه لدَعوتِه أشد الاستنكار، وقد بَعث المشركون عند وُصول المُسلمين
إلى الحَبشة عَبد الله بن أبي رَبيعة وعُمرو بن العاص لِلقاء
مَلِكِها النَّجاشي– [5] وكان نَصرانيا– وجَاءَا بالهَدايا إليه وإلى بَطَارقته[6]
كي يَرُد المُسلمين، ويُخرجهم مِن أرضه. فأبَى أن يُسَلِّمَهم حتى يَسمع مِنهم؛ فدَعاهم
بعد أن دَعى أساقفته[7]،
ثم سَألهم فقال لهم: ما هذا الدِّين الذي فارقتم فيه قَومكم ولم تَدخلوا دِيني
ولا في دِين أحد مِن هَذه المِلَل؟.
فأجابه جَعفر بن أبي طالب فقال له: أيها المَلك، كُنَّا
قوماً أهل جاهلية، نَعبد الأصنام[8]، ونَأكل المَيتة[9]، ونَأتي
الفَواحش، ونَقطع الأرحام، ونُسِيءُ الجِوار، ويَأكل القَويُّ
مِنَّا الضَّعيف، فكُنًّا على ذلك حتى بَعثَ الله إلينا رَسولا مِنّا نَعرف نَسبه
وصِدقه وأمانته وعَفافه، فدَعانا إلى الله لنُوحده، ونَعبده، ونَخْلَعَ ما كُنَّا
نَعبد نَحن وآباؤنا مِن دُونه مِن الحِجارة والأوثان، وأمَرَنا بصِدق الحَديث، وأداء
الأمانة، وصِلة الرَّحِم، وحُسن الجوار، والكَفِّ عَن المَحارم والدِّماء، ونَهانا
عَن الفَواحش، وقَول الزُّور، وأكل مال اليَتيم، وقَذف المُحصنة، وأمَرَنا أن نَعبد
الله وَحده لا نُشرك به شَيئا، وأمَرَنا بالصَّلاة والزَّكاة والصِّيام.. –
وعَدَّدَ عليه جَعفر أمُورَ الإسلام– فصَدَّقناه وآمنا به واتَّبَعناه على ما جاء به
مِن الله؛ فعَبدنا الله وَحده فَلم نُشرك به شَيئا، وحَرَّمنا ما حرم علينا، وأحللنا
ما أحل لنا، فعَدَا علينا قومُنا فَعَذّبونا وفَتنونا عن دِيننا؛ ليَردونا إلى عِبادة
الأوثان مِن عبادة الله تعالى، وأن نَستحل ما كُنَّا نَستحل مِن الخَبائث، فلمَّا
قَهرونا وظَلمونا وضَيَّقوا عَلينا وحالوا بَيننا وبَين دِيننا خَرَجنا إلى بلادك
واخترناك على مَن سِوَاك، ورَغبنا في جِوارك، ورَجونا أن لا نُظلم عِندك أيها المَلِك.
فقال النجاشي: هل مَعك مما
جاء به عن الله مِن شيء؟ قال جَعفر: نَعم. فقَرَأَ عليه آيات مِن سُورة مَريم، فبَكى النجاشي وبَكت أسَاقفته.. ثم قال لعَمرو
بن العاص وعَبد الله بن رَبيعة: إن هذا والذي جاء به عِيسى ليَخرُج مِن مِشْكاة[10]
واحدة، انطلقا فلا والله لا أسلمهم إليكما، ولا يَكادون.. فخَرج المُسلمون مِن عِنده
آمنين؛ فغَضب عَمرو بن العاص وتَمَلَّكه على المسلمين حِقدٌ شديد، وهَمَّ بأن
يُخبر النجاشي بما يَقولونَه عن عيسى بن مريم عليه السلام.. فلمَّا
كان الغد، دَخل عَمرو على النجاشي فقال له: أيها المَلك، إنهم يَقولون
في عِيسى بن مَريم قَولا عَظيما، فأرسِلْ إليهم فَسَلهُم عَمَّا يَقولون فيه. فأرسل إليهم النجاشي.
فلمَّا دَخلوا عليه قال لهم: ماذا
تَقولون في عيسى بن مريم؟. فأجابه جَعفر بن أبي طالب: نَقول فيه الذي جاءنا به نَبينا صلى الله عليه
وسلم: هو عَبد الله ورَسوله
ورُوحه وكَلِمَته ألقاها إلى مَريم العَذْراء البَتُول. فضَرَب النجاشي بِيَده إلى الأرض فأخَذَ مِنها عُوداً ثم قال: والله ما
عَدَا عيسى ابنُ مَريم ما قلت هذا العودَ[11]. فاطمأن
المُسلمون عند ذلك، وَخَرج عَبد الله بن أبي رَبيعة وعُمرو بن العاص مِن
عند النَّجاشي مَقبوحَين مَردوداً عَليهما ما جَاءَا به.[12]
السابق التالي
)_ [1]البداية والنهاية: 3/58).
[2]
_الحَبشة: بَلَدٌ مِن البُلدانِ الإِفْريقِيةِ، تَقَعُ
شَرقَ إِفْريقِيا. وتَضُمُّ حاليا إثيوبيا و إريتريا.
(ابن هشام:
1/343)_ [3]
[4] _ذَكر بن هشام عن
ابن إسحاق أسمَاء المُهاجرين إلى الحَبشة في الصفحة 344 وما بَعدها مِن الجزء
الأول. وكانوا ثَلاثة وثَمانين
رَجلا غير أبنائهم الذين خَرجوا بهم مَعهم صِغارا أو وُلدوا بها (ابن هشام:
1/353).
ومِن المُهاجرين: عُثمان بن عَفَّان
مع امرأته رُقيَّة بِنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو
حذيفة بن عُتبة بن ربيعة مع امرأته سَهْلة
بنت سُهيل، والزُّبير بن العوام، ومُصعب بن عُمير،
وعَبدُ الرحمان بن عَوف، وأبو سَلمة بن عبد الأسد مع
امرأته أم سَلمة بنت أبي أمية بن المغيرة، وعُثمان بن مَظعون،
وعامر بن رَبيعة مع امرأته ليلى بنت أبي حَثْمة، وأبو
سَبْره بن أبي رُهْم ويُقال: بل أبو حاطب بن عَمْرو، وسُهيل
بن بَيضاء. وكان هؤلاء أول مَن خَرَج ثم تَبعهم المُسلمون على رَأسهم جَعفر
بن أبي طالب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[5]
_لَقبٌ يُطلق على مَن وُلي مَملكة "أكسوم"
شَرق الحَبشة؛ إريتريا الآن، والتي كانت سابقا جُزءا مِن الحَبشة؛ أي مع إثيوبيا.
والنَّجاشي لَقب، كقَيصر لِمَن مَلك الرُّوم، وتُبّع لمَن مَلك اليَمن، وكِسرى
لِمَن مَلك الفُرس، وخاقان لِمَن مَلك التُرك، وفِرعون لمَن مَلك مِصر. واسم
النَّجاشي المَذكور هنا؛ أصحمة أو أصحم، وقد صَلَّى عليه النبي صلى
الله عليه وسلم صَلاة الغائب لمَّا عَلِم بِوفاته.
[6]
_البطارقة: رَئيس رُؤساء
الأساقفة ودُونه المطران.
[7]
_أساقفة: جَمع أُسقُف )العالم بالنصرانية(؛ وهي رُتبة دِينيّة لِرجال الكَنيسة فَوق القسِّيس
ودُون المطران، أو المطران ذاته. والمطران مَن يُشرف على عَدد مِن الأساقفة.
ويَتخذ الأسقُف عادة الكنيسة الكُبرى في إقليم مَا مَقراً له؛ وتُعرف
بـ(الكاتِدرائية). وهؤلاء كُلهم وغَيرُهُم تَحت ما يُسَميه النَّصارى بالبابا؛ وهو
رَئيس جَميع المطارنة والأساقفة، وصاحب أعلى دَرجة كَهنوتية بالكنيسة.
[8]
_الأصنام: هي ما كان مِن
المَعبودات على هَيئة تَماثيل، وللعَرب ثلاثة أصنام كُبرى تُعظمها وتَحُج إليها
وتَنحر لها الذبائح: أقدمها "مَناة"
بين مكة والمدينة، وكانت العرب جميعا تعظمه. وثانيها "اللاّت"
وكانت بالطائف، وكانت قريش وجميع العرب تعظمها. وثالثتها "العُزَّى"
كانت عَن يَمين المُسافر مِن مكة إلى العراق، وكانت قريش تَخصها بالإعظام.
[9]
_المَيتة: حَيوان مات حَتف أنفه
أو ذُبِحَ على غَير الطريقة الإسلامية، ويُستثنى مِن ذلك الجَراد والسَّمك؛
فمِيتتهما حَلال.
[11] _ذَكر المُحقق في
الهَوامش قول أبي ذر في شَرحِه لهذه العِبارة أنها تَعني؛ ما جاوز مِقدار هذا
العُود أو قَدر هذا العُود (ابن هشام: 1/360) والحادثة كاملة مَروية
في الصفحة 356 وما بَعدها مِن كتاب ابن هشام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق