{السَّنة الثَّانية
للهجرة}
وفي شَهر
رَبيع الآخر مِن نَفس السنة خَرَج رسول الله مَع
أصحابه لاعتراض عِير[1]
قريش؛ كتَهديد لهم.. واستخلف على المَدينة السّائب بن عُثمان بن مَظعون،
وكان يَحمل لِواءَه سَعد بن أبي وَقاص.[2]
حَتى إذا بَلغ جَبَلاً يُقال له بُواط[3]
لم يَلق قِتالا؛ إذ استطاع أمَيَّة بن خَلف الإفلات بالقافلة؛ بَعد أن أسرعت
في حَركتها وسَلكت طَريقاً غير طَريق القَوَافل المُعَبَّدة؛ فرَجَع الحَبيب صلى الله عليه وسلم إلى المَدينة،
وبَقِيَ بها حتى دَخل شهر جُمادى الأولى فغَزَا مُجددا قافلة لقُريش كانت مُتجهة إلى الشام؛ يَقودها أبو سُفيان بن حَرب[4] وهي غَزوة
العُشيرة[5]، وكان
قد استخلف على المَدينة أبو سَلمة بن عَبد الأسد، ويَحمل لِواءه عمه حَمزة
بن عَبد المطلب[6]. فلمّا بَلغ العُشيرة؛ وَجد العِير قد فاتته؛ فوادع بَني مُدلج[7]
وحُلفاءهم من بَني ضَمرة[8].
ثم رَجع إلى المَدينة. غَير أنه لم يُقم بها إلا لَيالي قَلائل حتى أغار كُرز
بن جابر الفِهريُّ على إبل ومَواشي للمُسلمين كانت تَسرَحُ في ناحية مِن نَواحي
المَدينة؛ فخَرج الرسول صلى الله
عليه وسلم في طَلبه؛ وهي غَزوة بَدر الأولى[9]،
وكانت في جُمادى الآخرة، وقد استخلف على المَدينة زَيد بن حارثة، ويَحمل
لِواءه عَلي بن أبي طالب[10]. حتى إذا بَلغ وادِيًا يُقال له سَفَوَان
قُرب بَدر فاته كُرزُ فلم يَدرِكه، فرَجع صلوات ربي وسلامه عليه إلى
المَدينة.. ثم بَعث بعد ذلك سَرية على رَأسها عَبد الله بن جَحش، وبَعث مَعَه
ثمانية رَهط[11] مِن
المُهاجرين لَيسَ فيهم مِن الأنصار أحد، وكَتب له كِتابا، وأمَرَه ألا يَنظر فيه
حتى يَسيرَ يَومَين، ثم يَنظر فِيه فيَمضي لِمَا أمَره به، ولا يَستكره مِن أصحابه
أحداً[12].
فلمَّا سارَ عَبد الله بن جَحش يَومين فَتَح الكِتاب، فنَظَر فيه، فإذا فيه:
«إذَا نَظَرْتَ
في كِتابي هَذَا فامْضِ حَتّى تَنزل نَخْلَةَ[13] بَين
مكَّة والطائف فتَرصَّدَ بها قُرَيْشًا وتَعَلّم لنَا مِن أخبارهم»[14]. فلمّا نَظر عَبد الله بن جَحش في الكِتاب قال: سَمعًا وطاعة. ثم قال لأصحابه: قد أمَرَني رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن أمضي إلى نَخلة أرصُدُ بها قُريشا
حَتى آتيه منهم بخَبر، وقد نَهاني أن استكره أحدا مِنكم، فمَن كان مِنكم يُريد
الشهادة ويَرغب فيها فليَنطلق، ومَن كَره ذلك فليَرجع.. فمَضِيَ ومَضى مَعه أصحابه
لم يَتخلف عنه مِنهم أحد؛ غير أن سَعد بن أبي وقَّاص وعُتبة بن غَزْوان أضَلاَّ
بَعيرًا لهما كان يَعْتَقِبَانه[15]
فتخلَّفَا عَن القوم[16]..
ثم نَزل عَبد الله بن جَحش وبَقية أصحابه بِنَخْلة فمَرَّتْ بهم عِيرٌ
لقريش فيها تِجارة مِن تِجارتهم وفيها عَمْرُو بن الحَضْرَمي، وكانوا في
الشهر الحرام[17]،
فتَردَّدُوا وهابوا الإقدام، ثم شجَّعُوا أنفسَهُم عَليهم؛ فقَتل واحد مِنهم عَمرو
بن الحَضرمي، وأسَرُوا عُثمان بن عَبد الله والحَكَم بن كَيْسَان،
وأفلتَ مِنهم نَوفل بن عبد الله. فلمّا قدِمُوا على رسول الله المَدينة، ومَعهم العِير والأسِيرَيْنِ،
قال صلوات ربي وسلامه عليه: «ما أمَرْتُكُم بِقِتَالٍ
فِي الشَّهْرِ الحَرَامِ»[18]. وأَبَى
أنْ يَأخذ ممّا جاءوا به، وعَنَّفَهم إخوانهم مِن المُسلمين.. وقالت قريش: قد
استحل مُحمد وأصحابه الشَهر الحرام، وسَفَكُوا فيه الدَّم، وأَخَذوا فيه الأموال،
وأسَرُوا فيه الرِّجال.. و كَثُرَ القِيلُ والقال، حتى أنزَل الله تَبارك وتَعالى على
رسوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِۚ
قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌۚ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ
اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ والمَسْجِدِ الحَرَامِ وَإخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ
اللهِۚ والفِتْنَةُ أكْبَرُ مِنَ
القَتْلِۚ ولاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ
حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُم إِنِ اِسْتَطَاعُواْۚ وَمَنْ يَّرْتَدِدْ مِنكُمْ
عَن دِينِه فَيَمُتِ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتَ أعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيا
والآخِرَةِۚ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ
النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَۚ
{215} إِنَّ الذِينَ ءَامَنُوا والذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ
اللهِ أولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِۚ واللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌۚ {216}} [البقرة: 215-216]؛ ففَرَّج الله تَعالى
عن المُسلمين ما كانوا فيه مِن الخَوف، وقَبِض رسول الله العِير والأسِيرين؛ وكانت هذه أوَّل
غَنيمة غَنمَها المُسلمون[19]..
ثم بَعثت قريش بعد ذلك إلى النبي صلى
الله عليه وسلم فِي فِداء
عُثمان بن عَبد الله والحَكم بن كَيسان، فأبَى حَتى يَقْدَمَ سَعدُ
بن أبي وَقَّاص وعُتبة بن غَزوان؛ خَوفًا عَليهما مِن قريش. فقدِمَ سَعد
وعُتبة، ففدَاهُمَا رسول الله مِنهم؛ فأما الحَكم بن كَيسان فأسلم، فحَسُن إسلامه، وأما عُثمان
بن عَبد الله فلحِقَ بمكة فمات بها كافرا.. وعَمرو بن الحَضرمي هو أوَّل
مَن قُتِلَ على يَد المُسلمين، وعُثمان بن عَبد الله والحَكم بن كَيسان أوّل
أسِيرَين.
السابق التالي
[2] _(البداية والنهاية: 3/241) عن غير ابن إسحاق.
[3] _جَبل مِن جبال
جهينة بناحية جَبل رضوى غرب المدينة المنورة.
[4] _حين رَجعت خَرج
المسلمون في طلبها؛ فكانت سَببا لغزوة بَدر الكبرى كما سَنرى.
[5] _قرية غَرب المدينة
المنورة، تقع في الطريق الرابط بين مَكة والشام.
[7] _أحد القبائل
العربية، مُستقرون في العُشيرة،
ويَسكن بجوارهم بنو ضَمرة، وبَينهما حِلف، وتقع مَنازلهم غرب المدينة المنورة بقُرب
الساحل .
[8] _ذكر المُحقق في
الهامش قول الزَرقاني: "وتقدم في وَدَّان أنه وادع بني ضَمرة، فلعلها تأكيد
للأولى، أو أن حلفاء بني مُدلج كانوا خارجين عن بني ضَمرة لأمر ما وبسببه حالفوا
بني مُدلج". انتهى قوله (ابن هشام: 2/236)
[10] _(البداية والنهاية: 3/243) عن غير ابن إسحاق.
[11] _الرَّهْط :
الجَماعة مِن ثلاثة أو سَبعة إلى عَشرة، أو ما دُون العَشرة. والجَمع: أرْهُطٌ،
وأرْهاط. وقد ذكر بن هشام عن ابن إسحاق أسماءهم (ابن هشام: 2/239)
[12] _لم يُخبرهم الرسول
صلى الله عليه وسلم بمَقصدهم وهم بالمدينة حَذَرا مِن شيوع الخبر فيَدل عليهم
الأعداء مِن المنافقين أو اليَهود فتترَصّد لهم قريش، ولا يَخفى أن عَدَد السّرية
قليل لا يُمكنه المُقاومة (نور اليقين: 102)
[17] _الأشهُر الحُرم:أربعة؛ رَجب وذُو القعدة
وذُو الحجة و مُحرم. شهر مُفرد؛ وهو رَجب، والبَقية مُتتالية؛ وهي: ذو القعدة وذو
الحجة ومحرم. والظاهر أنها سُميت حُرماً؛ لأن الله
حَرَّم فِيها القِتال بين الناس؛ فلهذا قِيل لها حُرم؛ جَمع حَرام.
[18] _(ابن هشام: 2/241)
[19] _ذَكر بن هشام عن ابن
إسحاق قوله: "وقد ذَكر بَعض آل عَبد الله بن جَحش أن الله عز وجل قسّم
الفَئَ – حين أحله – فجَعَلَ أربعة أخماسه لِمَن أفاءَه، وخمسه إلى
الله ورسوله..." (ابن هشام: 2/242). والفِئ هي الغَنيمةُ التي تَنالُ بلا
قِتال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق