{شَوّال،
السَّنة 3 للهجرة}
ثم أَتَى نَفرٌ مِن المُشركين أبَى
سُفيان بن حَرب بَعد أن نَجَى بِالعير، ومَن كانت له مِن قريش تِجارة في تِلك العِير؛
فقالوا: يا مَعشر قريش، إن مُحمدا قد وَترَكُم[1]،
وقَتَل خِياركم، فأعِينونا بهذا المَال على حَربه، فلعَلنا نُدرك مِنه ثَأرنا بِمَن
أصاب مِنَّا.. فوافقوا واجتمعت قريش لِحَرب رسول الله.. ودَعا جُبير بن مُطعم
– وهو مِن المشركين– غُلاما له حَبشيا يُقال له وَحشي[2]،
يَقذف بالحَربة وقلمَّا يُخطئ بها.. فقال لَه: اخرج مَعَ النَّاس، فإن قَتلت حَمزةَ عمَّ مُحمد بعَمِّي طُعَيمة بن عَدِيّ[3]
فأنت عَتيق[4]..
فوافق. ثم خَرَجَت قريش مَعَ حُلفائها، ومَن أطاعها مِن بَني كِنانة وأهل
تهامة[5]،
وخَرَجُوا بالظعن[6]؛
التماسَ الأنَفة، وألا يَفِرُّوا ويَترُكوا نِسائهم.. وكان أبو سُفيان بن حَرب
قائدهم ومَعه زَوجته هِند بنت عُتبة؛ وكانت كلمَّا مَرَّت بوَحشي أو
مَرَّ بها قالت: وَيهاً[7]
أبا دَسَمَة، اشف واشتف.. وما هي إلا أيام حتى أقبَلَ المُشركون فنَزَلُوا قُبالة
المَدينة؛ وذلك في مُنتصف شَوال مِن السنة الثالثة للهجرة. فلمَّا سَمِعَ
رسول الله والمُسلمون أنَّهم نَزَلوا حَيث
نَزَلوا؛ كَرِه الخُروج إليهم، حَتى يَدخلوا المَدينة فيُقاتلوهم فيها.. فقال رِجال
مِن المُسلمين: يا رسول الله، أُخرُج بنا إلى أعدائنا لا يَرَوْنَ أنا جَبُنَّا عَنهم
وضَعُفنَا.. فقال عَبد الله بن أبَّيٍ بن سَلُول: يا رسول الله أقِمْ
بالمدينة لا تَخرج إليهم، فوا الله ما خَرَجنا مِنها إلى عَدوٍّ لنا قَطُّ إلا أصاب
مِنَّا، ولا دَخَلَهَا عَلينا إلا أصَبنا مِنه.. فلمَ يَزل الناس برسول الله هَكذا حَتَّى دَخَلَ بَيته، فلبِسَ
لَأَمَتَهُ[8]،
وذلك يَوم الجُمعة حِين فرَغَ مِن الصَّلاة. ثم نَدِم الناس على استكراه رسول الله فقالوا: يا رسول الله، استكرهناك
ولَم يَكن ذَلك لنا، فإن شِئتَ فاقعد صَلى الله عَليك. فقال عليه الصلاة والسلام: «مَا يَنْبَغِي لِنَبِّيٍ إذَا لَبسَ
لأمَتَهُ أنْ يَضَعَهَا حَتَّى يُقاتِلَ»[9]. فَخَرج ومَعه المُسلمون، واستخلف على المَدينة ابن أمِّ مَكتوم، وكان يَحمل
لِوَاءَه مُصعب بن عُمير حتى إذا كانوا بَين المَدينة و جَبل أُحد،
تَوَلَّى[10] ثُلث
الناس مِن أهل النِفاق والرَّيب على رَأسهم عَبد الله بن أبي بن سَلول.. فقال
الأنصار لِرسول الله: يا رسول الله ألا نَستَعين بحُلفائنا مِن يَهود؟ فقال: «لا حَاجَةَ لَنَا فِيهِمْ»[11]. ثم جاءه سَمُرَة ابن جُنْدب الفَزَارِيَّ، ورَافِعَ بن خَدِيج؛ وهما
ابنا خَمس عشرة سنة يُريدان القِتال، فردَّهُما. فقِيل له: إن رافعاً رامٍ؛ فأجَازه..
فلمَّا أجازَ رافعاً قِيلَ له: يا رسول الله فإن سَمُرَة يَصْرَعُ رَافعاً، فأجَازَه
هو الآخر.. ومَضَى رسول الله حتى بَلَغ أُحد.. ثم قال: «لا يُقاتِلَنَّ أحَدٌ مِنكُمْ حَتَّى
نَأمُرَهُ بالقِتال»[12]. وتَهيَّأ
للقِتال وهُو في سَبعمائة رَجل، وأَمَّرَ على الرُّمَاةِ عبد الله بن جُبَير[13]
وكانوا خَمسين رَجُلا، وأمَرَهم بالتَّمَركز على الجَبَل، وألا يَبرحُوا مَكانهم..
وحَمَلَ عليه الصلاة والسلام سَيفاً فقال: «مَن يَأخُذُ هَذَا السَّيْفَ
بِحَقِّه»[14]. فقام إليه رِجالٌ فأمسكه عَنهم.. حَتَّى قام إليه أبو دُجَانَة[15] فقال: وما حَقُّه يا رسول
الله. قال: «أن تَضرِبَ به العَدُوَّ حَتَّى
يَنْحَنِي»[16]. فقال أبو دُجانة: أنا آخذه
يا رسول الله بحَقِّه. فأعطاه إياه. وكان أبو دُجانة رَجُلاً شُجاعا يَختال
عند الحَرب[17]،
وكان إذا اعتَصَبَ بِعصابة حَمراء عُرِفَ أنَّه سَيُقَاتِل؛ فَلمَّا أخَذَ السَّيف
مِن يَدِ رسول الله أخرج عِصابته تِلك فعَصب بها رَأسه، ثم جَعل يَتبختر بَين الصَّفين؛ فقال عليه
الصلاة والسلام حِين رآه يَتبختر: «إنَّهَا لَمِشْيَةٌ يُبْغِضُهَا الله إلاَّ فِي مِثْلِ هَذَا المَوْطِن»[18]. ثم تَهَيَّأت قريش وهُم ثَلاثة آلاف رَجل، ومَعهم مائتا فَرَسٍ قد قادُوها، فجَعلوا
على مَيمنة الخَيل خالد بن الوَليد بن المُغيرة وعلى مَيسرتها عِكرمة بن
أبي جهل.. فلمَّا التقى النَّاس ودَنَا بَعضهم مِن بَعض وذلك يَوم السبت؛ قامت
هِند بنت عُتبة في النِّسوة اللاتي مَعَها، وأخذَن الدُّفوف يَضربن بها خَلفَ
رِجال المُشركين، ويُحَرِّضنَهُم على القِتال، فقالت هِند فيما تقول:
وتَقول:
إنْ تُقبلُوا نُعَانِقْ ونَفرِشُ النَّمَارِقْ[21]
أوْ تُدْبِرُوا نُفارِقْ فِرَاقَ غَيْرِ وَامِقْ[22]
ثم اقتتل النَّاس حَتى حَمِيَتْ
الحَرَب؛ وكان مِن الذين قاتلوا قِتالا شديداً من الصحابة: أبو دُجَانَة، وعَلي
بن أبي طالب، وحَمزة بن عبد المطلب – عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم – وكان وَحشي يَتَرصده حتى إذا رَآه هَزَّ
حَربته فرَماه بها، فأصابه فاستُشهد – رضي الله عنه – ثم فَرَّ
وَحشي، وكان لا يَطمع مِن هذه الحَرب إلا بذلك.. ثم استطاعت نِبَال[23]
المُسلمين مِن إصابة الكثير مِن خَيل أهل مَكة، وشَيئا فشيئا بَدَأ جيش المُشركين بإلقاء
دُروعهم وعُدَّتِهم تَخَفُفاً للهَرب.. وكان مِن أبطال المُسلمين في هذه الغزوة حَنظلة
بن أبي عامر – غَسيل المَلائكة – وقد كان حَدِيثَ
عَهدٍ بالعُرس، فلمَّا سَمِعَ هَواتف الحَربِ – وهو على امرأته –
انخَلَعَ مِن أحضانها[24]،
وقام مِن فَوره إلى الجِهاد، وقاتل قِتالا شديداً حتى أنه شدَّ عَلَى أبي سفيان،
فلما استعلاه وتَمَكَّن مِنه رَآه شداد بن الأسود – وكان مِن المُشركين –
فضَرَبه حتى قَتَلَه فاستشهد رَحِمه الله تعالى.. ثم استمَرَّت المَعركة حتى
انتصَرَ المُسلمون.. فلما رَأى الرُّماة مِن على الجَبل فِرارَ المُشركين ثم الغَنائم على أرض
المَعركة؛ نَزَلَ مِنهم أربَعون؛ مُخالفين بذلك أمْرَ رسول الله بالبقاء، ظَناً مِنهم أن المَعركة
قد انتَهت.. وبَينما هُم كذلك إذا بِهَجمة مِن المُشركين تَأتيهم مِن الخَلف على
حِين غَرَّة؛ إذ انتهز خالد بن الوَليد الفُرصة؛ فاستدار المُشركون نَحو
المسلمين، وأطبقَت أجنحتهم عليهم، وتَمَكن نَفرٌ مِنهم مِن الوُصول إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فاستَطاع عُتبة بن أبي
وقاص – وهو واحد منهم – أن يَكسِرَ رُباعِيته اليُمنى
السُفلى[25]،
وتمَكن عَبد الله بن شهاب مِن أن يُحدث قَطعاً في جَبهته الشَّريفة، وتمَكَّن
ابن قمئَة الليْثي مِن جُرح وَجنتِهِ صلوات ربي وسلامه عليه.. ورَأى أبو
دُجانة حالَ رَسول الله صلى
الله عليه وسلم فانطَلق إليه وارتَمَى فَوقه ليَحميه؛ فكانت النَّبل[26]
تقعُ في ظَهره.. ثم بَدَأ المُسلمين يَهُبُّون لنَجَدته صلوات ربي وسلامه
عليه؛ وكانت بَينهم أم عُمارة نَسيبة بنت كَعب المازنية – رضي الله عنها–
وقد دافعت
عَن رسول الله دِفاعاً مُستَميتاً.. وعندما قَتَل
ابن قمئة مُصعب بن عُمير، ظنَّ أنَّه الرَّسول صلى الله عليه وسلم، فصَاح مُهَللا: قَتلتُ مُحمدا؛
فاضطَرب المُسلمون وخارت قِوَاهم.. وكان أوّل مَن اكتَشَفَ أن رسول الله حَي؛ كَعبُ بن مالك؛
فنادَى بأعلَى صَوته: يا مَعشر المسلمين، ابشِرُوا، هذا رسول الله.. فأشار إليه عليه
الصلاة والسلام: «أنْ أنْصِتْ»[27]. وأعطى اللواء لِعليٍّ بن أبي
طالب، واستطاع أن يَصعَدَ الجَبل، وتمَكن الرُّماة ومِنهم سَعد بن أبي وقاص
وأبو طَلحة الأنصاري مِن رَدّ المُشركين عَن الصُّعود إلى الجَبل؛ فالتَحق
المُسلمون الشاردُون بمَن على الجَبل مِن إخوانهم.. ثم انتَهت المَعركة بنَصر غير
حاسم للمُشركين، وأبو سفيان في نَشوة عارمة لأجل ذلك، ثم بَدأ يَفخر بآلهته
ويُشمت بالمُسلمين، وقد وَاعَدهم بالقِتال ببَدر العام القابل؛ فوَافق الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك.. وقد استُشهد في هذه
المَعركة مِن المسلمين سَبعينَ رَجُلاً؛ فأمَرَ عليه الصلاة والسلام أن يُدفن القَتلى
حَيث استُشهدوا.. وحَزِنَ على مَوت عَمّه وتَمثيل المُشركين بجُثته حُزناً شَديداً[28].. وكان ما لَقِيه المُسلمون في هَذه الغَزوة بَلاءاً وتَمحِيصا لهم؛ أكرم الله مَن مات
مِنهم بالشَّهادة، وابتلَى الأحياء بالهَزيمة.. قال الله تعالى: {إِنْ يَّمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ
مَسَّ اَلْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ اَلأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِۚ} [آل عمران: 140]. وبَعد يَوم مِن غَزوة أحُد أذَّنَ مُؤذِّن رسول
الله في الناس بالخُروج إلى العَدو وأذَّن
ألا يَخرج مَعهم إلا مَن حَضَرَ بالأمس؛ فخَرَج النبي صلى الله عليه وسلم ومَعه المُسلمون نَحو حَمراء
الأسد[29]
وهم ما بَين مَجروح ومَوهُون؛ وكان رسول الله يُريد بذلك تَخويف قريش، وليُبلغهم
أن الذي أصابهم لم يُوَهِّنهم عن عَدُوِّهم.. وقد استخلف على المدينة ابن أمِّ
مَكتوم.. فلما وَصلوا مَرَّ بهم مَعْبَدُ بن أبي مَعبد الخُزاعي – وكان يومئذ مُشركا، وكانت خُزاعة مُسلمهم
ومُشركهم يُناصرون رسول الله – فقال: يا مُحمد، أما والله لقد
عَزَّ علينا ما أصابك في أصحابك، ولودِدنا أن الله عافاك فيهم.. ثم خَرج مَعبد
حتى لَقِيَ أبا سفيان بن حَرب ومَن
مَعه بالطريق، وقد أجمَعُوا على الرُّجوع إلى رسول الله وأصحابه كي يَجهزوا على مَن بَقي
منهم.. فلمَّا رأى أبو سفيان مَعبدا قال له: ما وَراءك يا مَعبد؟
قال: مُحمد قد خَرَج في أصحابه يَطلبكم في جَمعٍ لم أرَ مِثله قط يَتحرقون عَليكم
تَحرُّقاً[30]،
قد اجتمع مَعه مَن كان تَخلَّف عَنه في يَومكم، ونَدِموا على ما ضَيَّعوا، فيِهم مِن
الحَنق[31]
عَليكم شَيء لم أرَ مِثله قَط – وكان مَعبد يُريد
بقوله تَخويف قريش – فقال أبو سفيان: وَيحك ما تَقول!! قال معبد: والله ما أرَى أن
تَرتحل حَتى تَرى نَواصي الخَيل. قال أبو سفيان: فوالله لقد أجمَعنا الكَرَّة
عَليهم لنَستَأصِلَ بَقيَّتهم[32]. فقال مَعبد: فإني أنهاك عَن ذلك.. فعاد أبو سفيان ومَن مَعه إلى مكة
مُسرعين خَوفاً مِن المسلمين.. وِخَوفاً مِن أن تَذهب سُمعة انتصارهم بَين الناس.. فأقام عليه
الصلاة والسلام بحَمراء الأسد ثَلاثة أيام، ثم رَجع إلى المَدينة دُون قِتال..
السابق التالي
[2] _كان يُكنى بأبي
دَسَمَة، أسلم لاحقا، وشارك في قتل مُسيلمة الكذاب يوم اليَمامة، وكان
يَقول: قَتلت خَير الناس في الجاهلية، وشرَّ الناس في الإسلام؛ يَعني بخَير الناس:
حَمزة بن عبد المطلب. وشر الناس: مُسيلمة الكذاب.
[3] _أحَدُ مُشركي وَسادت
قريش، كان يُؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم. قُتل بَعد غزوة بَدر؛ وكان الذي
قتله حَمزة عَمُّ الرسول صلى الله عليه وسلم.
[8] _اللَأمة: الدِّرع، وقد يُسمى السّلاح كُله
لَأمة.
[10] _تَولَّى عَن قِتال الأعداء : فَرَّ.
[13] _صَحابي مِن
الأنصار، استُشهد في هذه الغزوة.
[21] _النمارق: جمع نمرقة، وهي الوِسادة الصَّغيرة.
[25] _رُباعِيَة: سِنٌّ بين الثنيّة والنَاب،
وهي أربع: اثنتان في الفكّ الأعلى واثنتان في الفكّ الأسفل، يُقال: "تَلقَّى
لَكمة كَسرت رُباعيته".
[26] _النبل: السِّهام.
[29] _مِنطقة تقع في الجَنوب
الغَربي مِنَ المَدينة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق