{صفر، السَّنة
4 للهجرة}
وبعد هذه الغَزوة بشُهور قليلة قَدِمَ على رسول الله وَفد مِن قَبيلتي
عَضَل والقارّة[1]؛ فقالوا:
يا رَسول الله؛ إن فِينا إسلامًا، فابعث مَعنا نَفرًا مِن أصحابك، يُفقهوننا في الدّين،
ويُقرئُوننا القرآن، ويُعلموننا شَرائع الإسلام.. فبَعث مَعهم نفرًا مِن أصحابه؛ وهم:
مَرْثَدُ بنُ أَبي مَرْثَد، وخالد بن البُكير، وعاصم بن ثابت،
وخُبيب بن عَدِي، وزَيد بن الدَّثِنة، وعَبد الله بن طارق[2]. وأمَّرَ
على القَوم مَرثد بن أبي مرثد، فخَرَجَ مع القوم، حتى إذا كانوا على الرَّجيع
– وهو ماء لهُذيل بناحية الحِجاز بين
عُسفان[3] ومَكة
– غَدَر بهم المُشركون، وسَلَّمُوهم لهُذيل[4]. فَفُوجىء
المُسلمون وهم في رِحالهم، برِجال بني لَحيان وفي أيديهم السُّيوف ومَعهم ما
يَقرب مِن مائة رامٍ أو أكثر – وكان بنو لحيان يُضرب بهم المَثل في قُوة الرَّمي – فأحاطوا بهم، فأخَذَ المسلمون أسيافهم ليُقاتلوهم، فقال لهم بَنو لَحيان:
إنا والله ما نُريد قَتلكم، ولكنا نُريد أن نُصيب بكم شيئًا مِن أهل مكة، ولكم عَهد
الله ومِيثاقه ألا نَقتلكم. فأما مرثد بن أبي مرثد، وخالد بن البَكير،
وعاصم بن ثابت، فقالوا: والله لا نَقبل مِن مُشرك عهدًا ولا عَقدًا أبدًا. فقاتل
عاصم بن ثابت القومَ حتى قُتِل، وقُتِل صاحباه.. فلما قُتل عاصم أرادت
هُذيل أخَذَ رَأسه؛ ليَبيعوه لسُلَافة بنت سَعد بن شَهيد؛ وكانت قد نَذَرت
حين أصاب عاصم ابنيها يَوم أُحُد لَئِن قَدرت على رَأسه لَتَشربن في
قِحفهِ[5] الخَمر..
فحالت بَينَه وبَينهم النَّحل، فقالوا: دَعوه حتى يُمسي فتَذهب عَنه فَنَأخذه.. فبَعث
الله الرّيح في الوادي، فاحتمل عاصمًا فذَهَب به.. وكان عاصم قد أعطى
الله عَهداً ألا يَمسه مُشرك، ولا يَمس مُشركًا أبدًا؛ فاستجاب الله له. وأما زَيد
بن الدَّثِنة وخُبيب بن عَدِي وعَبد الله بن طارق، فقد رَغبوا
في الحياة واستسلموا؛ فأسَروهم ثم خَرجوا بهم إلى مَكة، ليَبيعوهم بها، حتى إذا كانوا
في الطريق[6] انتزع
عبد الله بن طارق يَده مِن القَيد ثم أخَذَ سَيفه، واستأخر عنه القوم فرَموه
بالحِجارة، فاستُشهد رحمه الله تعالى. وأما خُبيب بن عدي، وزَيد بن الدَّثنة، فقد باعوهما لقُريش
بأسيرين مِن هُذيل كانا بمَكة. فلمَّا أرادوا قَتل خُبيب قال لَهم: ذَرُوني
أركع رَكعتين، فتَركوه حتى رَكع رَكعتين ثم قَتلوه – وكان خُبيب
أوّل مَن سَنَّ هاتين الرَّكعتين– [7] وعِند اجتماع قريش لقَتل زَيد بن الدَّثنة قال له أبو سفيان
بن حَرب: أنشدك الله يا زَيد[8] أتُحب
أن مُحمدًا عِندنا الآن في مَكانِكَ نَضرب عُنقه وإنك في أهلك؟. قال: والله ما أحب
أن مُحمدًا الآن في مَكانه الذي هو فيه تُصيبه شَوكة تُؤذيه وإني جالس في أهلي. فقال
أبو سُفيان: ما رَأيت مِن الناس أحدًا يُحب أحدًا كحُب أصحاب مُحمدٍ مُحمدًا..
وبعد هذه الحادثة الأليمة جاءت حادثة أخرى أشد إيلاما مِنها وهي مَأساة بئر مَعونة
التي استشهد فيها سَبعون مِن خِيار الصَّحابة؛ وهُم في طَريقهم إلى نَجد لدَعوة بني
عامر إلى الإسلام على رَغبة رَجل منهم؛ هو مُلاعِب الأسِنَّة أبو بَراء عَامر
بن مَالك. فداهَمهم المُشركون وعلى رَأسهم
عامر بن الطُّفيل في مَوضع يُقال له بئر معونة؛ فلم يَنج مِن الصَّحابة
إلا كَعب بن زَيد الأنصاري[9]. وكان
الصَحابيان عُمرو بن أمية الضمري والمُنذر بن عُقبة بن عامر أثناء ذلك
في سَرح المسلمين، فرَأيَا الطَّير تَحُوم على مَوضع الوَقعة، فذَهبا نَحوهم ونَزَل
المُنذر، فقاتل المُشركين حتى قُتل، أماَ عمرو بن أمية الضمري فقد
أُسِر.. فلمّا أخبَرَ عامر بن الطفيل أنه مِن مُضَر؛ أعتقه الأخير عن
رَقبة كانت على أمه.. ثم ذَهب عمرو بن أمية إلى المَدينة مُتَأسفا على مَوت
هذا الحَشد الجَليل.. وفي الطريق لقي رَجُلَين مِن بَني عامر فاغتالهما في نَومهما
وهو يَحسب أنه قد أصاب مِن ثَأر أصحابه، وإذا مَعهما عَهدٌ مِن رسول الله لم يَعلم به. فلمَّا وَصل المَدينة
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما حَدث؛ فقال له الحبيب صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ قَتَلْتَ
قَتِيلَيْنِ لَأَدِيَنَّهُمَا»[10]. فبَادر النبي صلى الله عليه وسلم إلى جَمع دِيَّتَهُما[11] مِن
المُسلمين ومِن حُلفائِهم اليَهود، وقد
حَزِنَ على مَوت أصحابه في بَعث الرَّجيع وفي بئر معونة حُزنا شَديدا..
السابق التالي
[7]
_كان خبيب أوّل مَن سَنَّ
الرَّكعتين لكل امرئ مُسلم قُتل صَبراً؛ أي قُتل وهو مَقدور عليه، كأن يَكون أسيرا
أو مُوَثقا لا في حَرب أو مُبارزة.
)_ [10]ابن هشام: (3/189.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق