{ذو
القعدة، السَّنة 6 للهجرة}
وفي آخر العام خَرَج الحبيب صلى
الله عليه وسلم مُعتمرا يُريد بَيت الله الحَرام ولا يُريد قِتالا؛ وذلك بَعد رُؤيا رَآها
في مَنامه؛ أنه يَدخل المَسجد الحَرام مَع أصحابه آمنين مُحَلقين رُؤوسهم ومُقصِّرين..
وكان قد استنفر[1]
العَرب ومَن حَوله مِن أهل البَوادي مِن الأعراب ليَخرجوا مَعه، وكان يَخشى مِن
قريش أن يَصُدُّوه عن البَيت.. فأبطأ عليه كَثير مِن الأعراب، فخَرج بمَن مَعه من
المُهاجرين والأنصار ومَن لَحِق بهم مِن العَرَب.. واستخلف على المَدينة نُميلة بن عَبد الله الليثي، وقد ساق مَعه الهَدْي[2]؛
فلقيَهُ بِشر بن سُفيان الكَعبي[3]
وأخبَره باجتماع قريش له، ثم قال: «مَنْ رَجُلٌ يَخْرُجُ بِنَا عَلَى
طَرِيقٍ غَيْرَ طَرِيقِهِمُ الَّتِي هُمْ بِهَا»[4]. فقال رَجل: أنا يا رسول الله. فسَلك بهم طَريقا وَعِراً، فلمَّا خَرجوا مِن ذلك
الطريق عَلِم المُشركون أن الرسول صلى
الله عليه وسلم وأصحابه خالفوا عَنهم طَريقهم، فرَجعوا راكضين إلى قريش.. ثم أمَرَ النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بالنُزول أقصَى الحُديبية[5]
فأتاه هناك بُدَيلُ الخُزَاعِيُّ في رِجال مِن خُزاعة فكلَّمُوه وسَألوه؛
ما الذي جاء به؟ فأخبرهم أنه لم يَأت يُريد قِتالا، وإنما جاء زَائرا للبيت، ومُعظما
لِحُرمته. فرَجَعوا إلى قريش فقالوا: يا مَعشر قريش، إنكم تَعجلون على مُحمد، إن مُحمد
لم يَأت لِقِتال، وإنما جَاءَ زائرا لهذا البَيت.. فاتهموهم وخاطبوهم بما يَكرهون..
ثم بَعثوا إليه مِكْرَزَ بن حَفْص،
فلمَّا انتهى إلى رسول الله وكَلَّمه؛ قال له رسول الله نَحواً ممَّا قال لبُدَيل وأصحابه، فرَجَع إلى قريش فأخبرهم بما
قال رسول الله.. ثم بَعثوا إليه الحُلَيس
بن عَلقمة، وكان يَومئذ سَيد الأحابيش[6]،
فلمَّا رآه النبي صلى
الله عليه وسلم قادِماً قال: «إنَّ هذَا مِن قَوْمٍ يَتألَّهُونَ فابْعَثوا الهَدْيَ فِي وَجْهِه حَتَّى
يَراهُ»[7]. فلمَّا رَأى الحُليس الهَدي في قلائِده. رَجَعَ إلى قريش، ولم يَصل إلى
الرسول صلى الله عليه وسلم إعظاماً لِمَا رَأى، فقال لهم
ذلك، فقالوا له: اجلس فإنما أنت أعرابي لا عِلم لك. فغَضب الحُليس وقال: يا
مَعشر قريش، والله ما على هذا حالفناكم،
ولا على هذا عاقدناكم، أيُصَّدُ عن بَيت الله مَن جاء مُعَظِّما له، والذي نَفسُ
حُليس بيَده لَتُخَلُّنَ بَين مُحمد وبَين ما جاء له، أو
لأَنفِّرَنَّ بالأحابيش نَفرَةَ رَجل واحد. فقالوا له: مَهْ[8]
كُفَّ عَنَّا يا حُلَيْسُ حَتى نَأخذ لأنفسنا ما نَرضى به.. ثم بَعثوا عُروَة
بن مَسعود الثقفي[9]
فكلَّمه رسول الله بمِثل ما كلَّم به أصحابه، وأخبره أنه لم يَأت لحَرب.. فرَجَع إليهم فأخبَرَهم
بذلك، وحَدَّثهم عن حُبِّ المسلمين لرَسول الله، وأنه لا يَتوضأ إلا ابتدروا
وَضُوءَهُ، ولا يبصق بصاقاً إلا ابتدروه، ولا يَسقط مِن شَعره شيء إلا أخذُوه،
وأضاف لهم قائلا: يا مَعشر قُريش، إني قد جِئتُ كِسْرَى في مُلكه، وقَيصَر في
مُلكه، والنَّجاشي في مُلكه، وإني والله ما رَأيت مَلِكاً في قَوم قَطُّ مثل مُحمد
في أصحابه؛ ولقد رَأيت قوماً لا يُسلمونه لشَيء أبداً فَرَوْا رَأيكم.. ثم إن رسول الله أراد مرة أخرى تبليغ المشركين بِنِيَّته فبَعث عُثمان بن عَفان إلى
قريش فلقِيَه بمَكة أبَانُ بن سَعيد بن العاص فأجاره[10]
حتى بَلَّغ رِسالة رسول الله. فانطلق عُثمان حتى أتَى
أبا سُفيان وعُظماء قريش فبلَّغهم عن رسول الله ما أرسله به.. فقالوا لعُثمان
حِينَ فَرِغ مِن رِسالة رسول الله: إن شِئت أن تطُوف بالبَيت فطُف.
قال: ما كُنت لأفعل حتى يَطوف به رسول الله صلى
الله عليه وسلم. فاحتبسته قريش عِندها. فبَلغ الرسول صلى الله عليه وسلم والمُسلمين أن عُثمان بن
عفان قد قٌتِل؛ فقال: «لا نَبرح حتى نُنَاجز القوم[12]«[11]. فدَعَا الناس إلى البَيعة، فبايعُوه صلوات ربي وسلامه عليه تَحت شَجرة؛ وهي
بَيعة الرِّضوان، ثم أتَى رسول الله بعد ذلك أن الذي ذُكر مِن أمرِ عُثمان باطل.. ثم بادرت قريش إلى
الصُّلح؛ فبَعثت سُهَيل بن عمرو[13] إلى رسول الله، وقالوا له: ائتِ مُحمدا فصَالحه ولا يَكُن في صُلحه إلا أن يَرجع عنَّا عامه هذا،
فوالله لا تُحدِّث العَرب عنَّا أنه دَخلها عَلينا عُنوةً أبدا. فلمَّا انتهى سُهيل
إلى رسول الله وأخبره بما قالته قريش؛ وافق
النبي عليه الصلاة والسلام وجَرَى بَينهما الصُّلح فكَتبوا
الكِتاب؛ وكان مِن بُنود الصُلح أن يُؤَدي المُسلمون العُمرة العام القادم وقُريش
خارج مَكة ثلاثة أيام.. فلمَّا فَرَغ صلوات ربي وسلامه عليه قام إلى هَديه فنَحره،
ثم جَلس فحَلق رَأسه، فلمَّا رَأى الناس أنَّ رسول الله قد نَحَرَ وحَلق، تَواثَبوا يَنحرون
ويَحلقون.. ثم انصرف عليه الصلاة والسلام قافلا إلى المدينة.. وعند رُجوعه وَجَدَ
أن الوَقت قد حانَ لِتَعميم الدَّعوة إلى الإسلام في خارج جَزيرة العَرب –إذ أنه لم
يُرسل إلى العَرب وَحدهم؛ بل للناس كافة– واختار مِن أصحابه مَن يَجمع بين حُسن المَظهر
وفَصاحة اللسان وسُرعة البَديهة؛ كي يَفِدَ على المُلوك والأمراء.. وكان رسول الله
يَتمتَّع بفِراسة[14]
عَظيمة تَجعله يَختار لكل مُهمة مَن يُناسبها مِن قِيادة أو تَعليم أو سِفارة..
وقد اتخذ عِند مكاتَبَته للمُلوك[15]؛ خاتَماً مِن فِضَّة يَختم به خِطاباته، وكان نَقشه (محمد رسول الله)[16]؛
فكاتَب قَيصر مَلِك الرُّوم[17]،
وأمِيرُ بُصرى[18]، والحارث
بن أبي شمر أمِير دِمشق من قِبَلِ هِرقل[19]،
والمُقوقس أمِير مِصر من جِهة قَيصر[20]،
والنَّجاشي مَلك الحَبشة[21]،
وكِسرى مَلك الفُرس[22]،
والمُنذر بن سَاوَى مَلك البَحرين[23]،
وجيفر وعَبدٍ ابني الجُلُندي مَلِكَيْ عُمان[24]،
وهَوْذَةَ بن عَلي مَلك اليَمامة[25]. وكانت هذه الكِتابات دَليلا على ما تَجيش به نَفسه صلى الله عليه وسلم مِن سُمُوٍ في الشَّجاعة وقُوة في الإيمان برِسالته[26]..
وكان عليه
الصلاة والسلام إلى جانب ذَكائه وشَجاعته مُتواضعا، ولم يَتَّخذ لنَفسه قَط حارسا أو حاجبا؛ بل كان يُجالس أصحابه ويُخالطهم
ويُمازحهم ويُلاعب صِبيانهم.. وكان يُجيب دَعوة الحُرِّ والعَبد والأمَة والمِسكين..
وكان لا يَنصرف حتى يَنصرف جَليسه.. ويَبدأ مَن لَقيه بالسلام، ويَبدأ أصحابه
بالمُصافحة.. وإذا أخَذَ أحدٌ بيَده صلى الله عليه وسلم كان لا يُرسلها حتى يُرسلها الآخر.. ومَن سَأله حاجة كان يَقف حتى يَستمع
إليه، ولم يَرده إلا بها أو بِقَول لَيِّن.. وكان فوق ذلك يَقبل عُذر المُعتذر،
ويَقبل الهَديَّة على هَوان قِيمتها، بل ويُكافئ عليها..
السابق التالي
[2]_الهَدي: ما
يُساق إلى البَيت الحرام مِن الأنعام للتَّصدُّق بلحمه بعد ذَبحه. أمَّا القلائد
فقد اختُلف في دَلالتها؛ فمِن المُفسرين مَن قال بأنَّها تعني البَهائم المُهداة
التي وُضع في أعناقها قلائد، وتُعد هذه القلائد وَسيلة تَحمي هذه البَهائم مِن
الاعتداء؛ فمَن يَرى القلادة في عُنقها يَفهم أن هذه البَهيمة مُهداة إلى بيت الله
الحرام فلا يَعتدي عليها ولا على أصحابها. والله أعلم.
[3] _قال بن هشام: ويقال
بُسْر، وهو صَحابي جليل.
[5]
_الحُديبية: بئر في قرية سُميت هذه
الغزوة باسمها، بينها وبَين مَكة مَرحلة وبَينها وبَين المدينة 9 مَراحل؛ والمَرحلة
مَسيرة يَوم بالإبل: وهي نَحو 30 كيلو مترا )نور اليقين: (174.
[7] _(ابن هشام: 3/360).
[8] _أي حَسبُك.
[10] _أي جَعله في جِواره
وحِمايته.
[12] _(ابن هشام: 3/364).
[13] _أسلم بعد فتح مكة.
[15]
_رُسُل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأمراء والمُلوك: دِحية بن خَليفة الكلبي؛ أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هِرقل
قَيصر الدولة الرومانية. عبد الله بن حذيفة السَّهمي؛ أرسله الرسول
صلى الله عليه وسلم إلى كِسرى مَلك الفرس. عمرو بن أمية الضمري؛
أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ملك الحَبشة. حاطب بن
أبي بَلتعة؛ أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المُقوقس أمير
مصر. شجاع بن وهب؛ أرسله
الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الحارث الغساني حاكم الشام. عمرو بن
العاص؛ أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم إلى صاحبا عُـمان جيفر وعبد ابني الجُلندي. سُليط بن
عمرو العامري؛ أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هَوذة بن علي
صاحب اليَمامة في نَجد. العلاء بن الحضرمي؛ أرسله الرسول صلى الله
عليه وسلم إلى حاكم البَحرين المنذر بن سَاوى.
[16] _(نور اليقين: 181)
[17] _ذَكر العُلماء أنه
فَضَّل مُلكه على إتباع الإسلام.
[18] _أرسل الرسول صلى
الله عليه وسلم الحارث بن عُمير الأزدي بكِتاب إلى أمير بُصرى،
فلمّا بَلغ مُؤتة – وهي قَرية مِن عَمل البلقاء بالشام – تَعرض له شرحبيل بن عمرو الغساني، فقال
له: أين تريد؟ قال: الشام. قال: لَعلك مِن رُسل محمد؟ قال: نَعم. فأُمِرَ به
فضُربت عُنقه. ولم يُقتل لرسول الله صلى الله عليه وسلم رسول غَيره (نور اليقين: 183). وقد بَعَثَ صلوات ربي وسلامه عليه لاحقا – في جمادى الأولى، سنة 8 للهجرة – جَيشا للقصاص مِمّن قَتلوا الحارث بن عُمير
الأزدي، وأَمَّرَ عليهم زَيد بن حارثة وقال لهم: «إن أُصيبَ فالأمير جَعفر بن أبي طالب،
فإن أُصيب فعبد الله بن رواحة» )نور اليقين: (199.
وعند وُصول المُسلمين إلى مُؤتة وَجدوا
الرُّوم قد جَمعوا لهم جَمعا عَظيماً مِنهم ومِن العَرب المُتَنصرة، وقد استشهد فيها
الأمراء الثلاثة الذين أمَّرهم الرسول صلى الله عليه وسلم على المُسلمين؛ فأخَذَ خَالد
بن الوَليد قِيادة الجَيش ورَجع به إلى المدينة )نور اليقين: 199-(201.
[19] _بَعد وُصول الكتاب
إلى الحارث؛ غَضب وعَزم على إرسال جيش لحَرب المسلمين، ثم أرسل إلى قَيصر يَستأذنه
في ذلك، غير أن قيصر ثَنى عزمه؛ فصرف الحارث رسول رسول الله بالحُسنى، وَوَصله
بنفقة وكسوة.
[20] _لم يُسلم المُقوقس
غَير أنه أكرم رسول رسول الله وبَعث معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
بجاريتين لهما مَكان عظيم في القبط وبثِياب، وأهدى إليه بَغلة يَركبها، وإحدى
الجاريتين مارية؛ التي تسرَّى بها عليه الصلاة والسلام، وجاءَ مِنها
بوَلده إبراهيم، والأخرى أعطاها الرسول صلى الله عليه وسلم لحسَّان
بن ثابت.
[21] _أسلمَ.
[22] _لم يُسلم، وكانت
مَملكته أقرب المَماليك سُقوطا، وقد مات على يَد ابنه شيرويه، وكان قد
مَزقَّ كِتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم استكبارا عندما وَصله؛ فلمَّا علِم
رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك؛ دَعَى عليه؛ فكانت نِهايته المَوت على يَد
ابنه.
[23] _ذَكر العُلماء أنه
أسلم.
[24] _أسلما.
[25] _لم يُسلم، وما لَبث
في حُكمه حتى مات.
[26]
_وهذا نص كتاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ملك الحبشة: بسم الله الرحمان الرحيم، مِن محمد
رسول الله إلى النجاشي ملك الحبشة. سلام، أما بعد فإني أحمد إليك الله الذي لا إله
إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن وأشهد أن عيسى ابن مريم روح الله
وكلمته ألقاها إلى مريم البَتول الطيبة الحصينة فحملت بعيسى مِن روحه ونفخه كما
خلق آدم بيده. وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له والموالاة على طاعته وأن
تتبعني وتوقن بالذي جاءني فإني رسول الله وإني أدعوك وجُنودك إلى الله عز وجل. وقد
بلغت ونصحت فأقبلوا نَصيحتي والسلام على مَن اتبع الهدى )نور اليقين: (185.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق