{رَمَضان،
السَّنة 8 للهجرة}
وبَعد شُهور نَقضَت قٌريش
عَهدها مَعَ رسول الله؛ بتَعاوُنها مع بَني بكر ضِدَّ خُزاعة – حَليفة المُسلمين– [1] فأمَرَ النَّبي صلى الله عليه وسلم بمُهاجمة قريش في مَكة
لنَقضها العَهد. وأتَى أبو سُفيان بن حَرب المَدينة؛ ليَشُدَّ العَقد ويَزيدَ فِي
المُدَّة.. حَتى إذا أتَى رسول الله كَلمَه؛ فلم يَرُد عَليه النبي صلى الله عليه وسلم، فذَهَبَ إلى أبي بكر؛ فطَلب مِنه أن يُكلم رسول الله فقال: ما أنا بفاعل. وكذلك قال عُمر
و عَلي.. ثم رَجع أبو سفيان إلى مَكة خائبا.. واستَنفر عليه الصلاة
والسلام الأعراب الذين حَول المَدينة فقَدِمَ جَمعٌ منهم.. وطَوَى الأخبار عَن الجَيش
كَيلا يَشيعَ الأمر فتَعلم قُريش فتَستعد للحَرب ورسول الله لا يُريد قِتالا بمَكة أو أن تُمَسَّ
حُرمتها، بل أراد انقِيَاد أهلها لهم إذا باغتوهم فيها؛ فقام الصَّحابي حاطب بن
أبي بَلتعة – وكان مِمَّن شَهِدَ غَزوة بدر – فكَتب كِتاباً
لقريش يُخبرهم بما هَمَّ به رسول الله، وأرسله مَعَ امرأة لتُوصله إلى قريش.. فأعلم الله رَسوله بذلك؛ فأرسل في أثَرِها
عَلياً بن أبي طالب والزُّبير بن العَوَّام وقال لهما: «أدرِكَا امرأة قد كَتب مَعها
حاطب بن أبي بَلتعة بكِتاب إلى قُريش يُحَذرهم ما قد أجمعنا له في أمرهم»[2]. فخَرَجا حتى أدركاها؛ فأخرَجَت
لهم الكِتاب فأتَوا به رسول الله، فدَعَا حاطباً فقَال له: «يا حَاطِبُ مَا حَمَلَك عَلَى هَذَا»؟[3] فقال: يا رسول الله أما والله إني
لَمُؤمن بالله ورسوله، ما غَيَّرت ولا بَدَّلت ولَكني كُنتُ امرأ لَيس لِي في القَوم
مِن أصل ولا عَشيرة، وكان لي بَين أظهرهم وَلدٌ وأهل، فصَانعتهم عليهم. فقال عمر
بن الخطاب: يا رسول الله دَعني أضرب عُنقه فإن الرَّجُل قد نَافق. فقال رسول
الله: «وَمَا يُدْرِيكَ يَا عُمَرُ
لَعَلَّ الله قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أصْحَابِ بَدْرٍ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَال: اعمَلُوا
مَا شِئتم فَقَدْ غَفَرْتُ لكم»[4]. ثم أمَرَ عليه الصلاة والسلام
الناس بالخُروج؛ وذلك في رَمضان مِن السنة الثامنة للهجرة.. وقد استخلف على
المَدينة أبا رُهْم كلثومَ بن حُصين.. وسَمِعت قريش بأن الرسول صلى الله عليه وسلم زاحف بجًيش عَظيم لا تَدري
وِجهته؛ فأرسلت أبو سفيان بن حَرب مع حَكيم بن حِزام و بُديل بن
وَرقاء يَتحسّسون الأخبار[5].. فلم يَظفروا بشَيء، ولما هَمُّوا بالرُّجوع لَقيهم العَبَّاس بن عَبد
المطلب فجاء بأبي سُفيان إلى
رسول الله بَعد أن أجاره، فمَا لَبِثَ
أبو سفيان أن أسَلم.. ثم قدِمَ مَكة قبل دُخول المُسلمين إليها؛ فأخبَرَ
قريشا أن النبي صلى
الله عليه وسلم قد جَاءَهُم بجُيوش لا قِبَلَ لهم بها، فمَن دَخل دار أبي سفيان فهو
آمن، و مَن دَخل المَسجد فهو آمن، ومَن أغلق عليه بابه فهو آمِن؛ فتَفَرَّق الناس إلى
دُورهم وإلى المَسجد.. وأمَرَ عليه الصلاة والسلام قادة جُيوش المُسلمين ألا يُقاتلوا
إلا مَن قاتلهم إلا نَفراً سمَّاهم وإن تَعَلَّقوا بأستار الكعبة؛ مِنهم: عَبد
الله بن خَطَل، وقِينتان له [6]،
والحُويرث بن نُقَيد، ومِقيَسُ بن قبابة، وسارَة وهي مَولاة
لبَعض بَني المطلب[7]، وعِكرمة
بن أبي جهل[8] وغَيرهم[9].
وقُتِلَ مِن هؤلاء عَبد الله بن خطل و قِينة له، ومِقيس بن قبابة، والحُويرث
بن نقيد. وَمَن بَقِيَ نَجا مِن القَتل بعد هُروبه و طَلبِ الأمان مِن رسول
الله.. ثم دَخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة مُنحنيا رَأسه؛ تَواضعا
لله حِين رَأى ما أكرمه الله به مِن الفَتح.. ودَخل الكَعبة فكسَّر أصنامها؛ و كانت
ثَلاثمائة و سِتُّون صَنَماً.. ثم خَطب في قريش قائلا: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ؛ مَا تُرَوْنَ أنِّي فاعِلٌ فِيكم؟»[10]. قالوا: خَيراً، أخٌ كَريم، وابن أخ كَريم. فقال صَلوات ربي وسلامه عليه: «اذْهَبُوا فأنتُم الطُّلَقَاء»[11]. وأعطَى مِفتاح الكَعبة لِعُثمان بن طَلحَة، وجَعَل عَتَّاب بن أُسيد عاملا
على مَكة، وخَلَّف مَعه مُعاذ بن جَبل يُفَقِّه الناس في الدِّين
ويُعَلِّمهم القُرآن الكريم.. و كان قد خَرَج مَعه لِفتح مَكة عَشرة آلاف مِن
أصحابه رِضوان الله عَليهم أجمعين.
السابق التالي
[1]
_لَمّا
كان صُلح الحديبية بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش كان فيما شَرطوا
لرسول الله صلى الله عليه وسلم وشَرط لهم أنه مَن أحب أن يَدخل في عقد رسول الله
صلى الله عليه وسلم وعهده فليدخل فيه، ومَن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فليدخل
فيه. فدَخلت بنو بكر في عقد قريش وعهدهم، ودَخلت خُزاعة في عقد رسول الله صلى الله
عليه وسلم وعهده )ابن هشام: (4/4.
[2] _(ابن هشام: (4/16.
[6] _كان عَبد الله
بن خَطل قد أسلم ثم ارتدَّ. وكانت له قينتان تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فأمَرَ عليه الصلاة والسلام بقتلهما معه. والقينة: جمع قَيْان و
قَيَنات و قِيان: وهي الأمَة أو المُغنية،
وغَلب اللفظ على المُغنية.
[7] _كانت تُؤذي رسول
الله صلى الله عليه وسلم بمَكة.
[9] _كان مِنهم وَحشي
الذي قتل عمّ الرسول صلى الله عليه وسلم حَمزة بن عبد المطلب؛ وقد
أسلم. وهند بنت عُتبة زَوج أبو سفيان بن حرب؛ وقد أسلمت هي الأخرى. وكعب بن زهير )الشاعر المعروف(
وقد أسلم أيضا. ومنهم أيضا عبد الله بن سعد؛ كان يَكتب الوحي لرسول
الله صلى الله عليه وسلم ثم ارتد بعد إسلامه؛ وقد أسلم هو الآخر، وعَفى عنه النبي
صلى الله عليه وسلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق