ولمَّا اشتدَّ عُوده وبَلغ عِشرين سَنة[1]؛ هاجت
حَرب الفِجار[2]
بين قُريش ومَن مَعها مِن كِنانة، وبَين قَيس عَيْلاَنَ[3]. وكان
سَببها أن عُرْوَةَ الرَّحَّال – وهو مِن هَوازن – أجار تِجارة[4] للنُّعمان
بن المُنذر[5]،
فقال له البرَّاض بن قَيس – وهو مِن بَني كِنانة –: أتُجيرها
على كِنانة. قال: نَعم، وعلى الخَلق كله. فغَضِبَ البَرَّاض وتربَّص له،
حتى إذا خَرَج عُروة بالتِّجارة قَتله البَرَّاض غَدرا.. ثم بَلغ
الخَبر قوم عُروة فهَمَّت بثَأرها،[6] وتبعَت قُريشًا
و كِنانة حتى
أدركوهم؛ فاقتتلوا.. ولمَّا اشتدت الحَرب؛ احتمت قريش بحَرمها؛ فأمسكوا
عنهم؛ لِمَكانة البيت عندهم.. ثم التَقوا بَعد هذا اليَوم أيَّاما أُخَر إلى أن
تَمَّ الصُّلح، وانتَهت الحَرب.. وكان رسول الله قد شَهِد بَعض أيامهم هاته مع أعمامه.. وعند رُجوع
قريش تَداعوا لِحِلفِ الفُضُول؛ وهو أشرف حِلف في العَرب، وقد عُقِد في دار عَبد الله بن جُدعان التَّمِيمي
أحد سادات قريش؛ فتَعاقدوا وتَحالفوا ألا يَجدوا بمَكة مَظلوماً مِن أهلها أو مِن
غَيرِهم مِن الناس إلا قامُوا مَعه حتى تُرد إليه مَظلمته.. وقد حَضَرَ هذا الحِلف
رسول الله صلى الله عليه وسلم مَع أعمامه، وقد قال عَنه
بعد أن شَرَّفه الله تعالى بالنُبُوَّة: «لَقَدْ شَهِدْتُ فِي دَارِ
عَبْدِ الله بْنِ جُدْعَانَ حِلْفاً مَا أُحِبُّ أنَّ لِي بِه حُمُرَ النَّعَمِ[7]،
وَلَوْ أُدْعَى بِهِ فِي الإِسْلامِ لأَجَبْتُ»[8].
السابق التالي
[1] _ذَكر ابن هشام عن ابن إسحاق أن عُمره صلى الله عليه وسلم حِين
هاجت حَرب الفِجار: عِشرين سَنة (ابن هشام: 1/201). أماَّ ابن هشام فقد ذَكر في
مَوضع قَبله أن عُمره حين هاجت الحَرب: أربعة عَشر سنة أو خَمس عَشرة سَنة؛ فيما
حَدثه أبو عُبيدة النحويُّ عن أبي عمرو ابن العلاء (ابن هشام: 1/198).
[2] _ذَكر مُحقق كتاب ابن هشام؛ الشيخ محمد مُحي الدين عبد الحميد
قَول السهيلي: "الفِجار – بكسر الفاء – بمعنى المُفاجرة،
كالقتال والمقاتلة، وذلك لأنه كان قِتالا في الشهر الحرام، ففجروا فيه جميعا، فسمي
الفِجار.." (ابن هشام: 1/198).
[3] _قَيس عَيْلان: قبائل تضم
عدة أفرع أبرزها: هَوازن وغَطفان وبنو سليم وثَقيف، و
يَنتسبون لقيس عيلان بن مضر بن نِزار بن معد بن عدنان، وقيس هو شقيق إلياس
بن مضر الذي تَنحدر منه قبائل "خندف"؛ التي مِن أبرزها قبيلة
قريش، وكنانة، وخزاعة.
[4] _مَنع التَّعدي عَليها.
[5] _النُعمان بن المُنذر:
مَلك العَرب بالحِيرة – وهي بلدة غَرب الفرات، كان يُقيم بها مَلك العَرب مِن قِبَلِ مُلوك الفُرس
– وكان النعمان يُرسل تجارته لتُباع كل عام إلى سوق عُكاظ في أمان رَجل ذي
منعة وشَرف في قومه ليُجيزها. وعُكاظ سوق كانت تَعقدها العَرب كل عام؛ تَعرض فيها تِجارتها، وما قاله فُصحاؤها مِن القصائد
وبالأخص قَصائد الفخر.
[7] _أي لا أحب نَقضه
وإن دُفع لي حُمر النعم في مُقابلة ذلك (ابن هشام: 1/145). وحُمر النعم مَعناها: الإبل الحُمر، وهي أنفس
أموال العَرب، يَضربون بها المَثل في نَفاسة الشيء وأنه ليس هناك أعظم منها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق