ثم اقترَبَ مَبعثه؛ فكان أَوَلُ
ما بُدِئَ به مِن النُّبوة الرُّؤيا الصَّادقة؛ فكان لا يَرَى رُؤيا في نَومه
إلا جَاءت كفَلقِ الصُّبح[2].
وحَبَّبَ الله تعالى إليه الخَلوة؛ فكان يَتحنَّث[3] في غار حِراء[4] مِن
كُل سَنة شَهرا أو قَريبا مِن ذلك؛ يُطعم مَن جَاءه مِن المَساكين. فإذا قَضَى جِواره؛ كان أوّل ما يَبدأ به الكَعبة؛ يَطوف
بِها سَبعًا أو ما شاء الله قَبل أن يَدخُل بَيته.. حتَّى إذا بَلغ أربعين سَنة وكان شَهر رَمضان؛ خَرَج إلى حِراء، فلمّا كانت
الليلة التي أكرمَهُ الله فيها بِرِسالته؛
جَاءهُ جِبريل عليه السلام بأمرِ الله تعالى فقال له: اقرأ. قال عليه
الصلاة والسلام: «ما أنا بقارئ» – أي لَستُ مِمَّن يَقرَؤُون؛ إذ أنه
لم يَتعلم القِراءة مِن قبل – فأخَذَه جبريل فَغَثَّهُ[5]
حتى ظَنَّ عليه الصلاة والسلام أنَّه المَوتُ ثم أرسله، فقال له: اقرأ. قال: «ما أنا بقارئ». فأخذه فغَثه ثانية ثم أرسله.
فقال: اقرأ. قال: «ما أنا بقارئ». فأخذه فغثه ثالثة ثم أرسله فقال جبريل: {اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الذِي خَلَقَۚ {1} خَلَقَ الإِنْسَانَ مِن عَلَقٍۚ {2} اِقرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ {3} الّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ {4} عَلَّمَ
الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلمْۚ {5}} [العَلَق:1- 5][6].
فقَرَأها رَسول الله فانصَرَفَ جبريل[7].
ثم أتَى زَوجته خَديجة وَفُؤاده يَرجُف؛ فقال: «زَمِّلوني زملوني»[8] ــ أي لُفُوني في ثَوبي ــ فزَملوه حتى ذَهب عَنه الرَّوع[9]،
فأخبَرها بما رَأى وأنه خَشِيَ على نَفسه.
فَهَدَّأته وقالت له: كَلا والله لا يُخزيك الله أبدا. إنك لَتَصِلُ الرَّحم،
وتُقري الضَّيف[10]
وتَحمل الكَل[11]،
وتُكسِبُ المَعدوم[12]،
وتُعين على نَوائب الحق[13].
وَرَجَت أن يَكون الله قد اختاره لِهِداية قَومه؛ فانطلقت إلى ابن عَمِّها وَرَقة
بن نوفل كي تَستبين؛ وكان شَيخاً كبيراً قد تنصَّر وقَرَأ الكُتب
وسَمِعَ مِن أهل التَوراة والإنجيل. فأخبرته بما أخبرها به النبي صلى الله عليه
وسلم، فقال وَرقة: قُدُّوسٌ قدوس، والذي نَفس وَرَقَة بِيَده لَئِن كُنتِ
صَدَقتيني يا خَديجة لقد جاءَهُ النَّامُوس الأكبر[14]
الذي كان يَأتي مُوسى، وإنه لنَبِيُّ هذه الأمة، فقُولي له فليَثبت. فرَجعت خديجة
إلى رسول الله فأخبرته بقَوله[15].
السابق التالي
[2] _فَلَقِ الصُبحِ: هو ضَوؤُه وإنارَتُه.
[3] _تَحَنَّثَ الرَّجُلُ: تَعَبَّدَ. والراجح أنها بمَعنى: يتحنف، أي يتبع الحَنفية، وهي دِين
إبراهيم عليه السلام (والله أعلم).
[4] _غار حِراء:
يَقع أعلى جَبل النور بِمَكة المكرمة.
[5] _يُقال غَثه بالتاء،
وغَطه بالطاء أيضا، ومَعناه؛ شَدّني، والمَعروف أن الغط والغث مَعناهما حَبس
النفس، ورُبما مَعناه؛ عَصره عَصرا شديدا حتى وَجد منه المَشقة كما يَجد مَن يُغمس
في الماء قهرا (ابن هشام: 1/255،
الهامش).
[6] _القرآن الكريم برواية
وَرش عَن نافع.
[9] _أي: الفَزَعَ، الهَلَعَ.
[10] _أي: تُكرم الضيف.
والقِرى؛ وهو الطّعام الذي يُقدم للضُيوف.
[14] _المَلك الذي جاءه
بالوحي وهو جبريل عليه السلام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق